تولد المنح من رحم المحن، وبعد العسر يأتي اليسر، وقد تعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمحن كثيرة، فقريش أغلقت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالها، وفقد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمه الشفيق، وتجرأ المشركون عليه، وفقد زوجه الحنون التي كانت تواسي وتعين، ثم حوصر بعد ذلك ثلاث سنوات في شِعب أبي طالب ، وما صاحبه من جوع وحرمان، و ما ناله في الطائف من جراح وآلام، ومع ذلك كله فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماض في طريق دينه ودعوته، صابر لأمر ربه . . فجاءت رحلة الإسراء والمعراج مكافأة ومنحة ربانية ، على ما لاقاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من آلام وأحزان، ونَصَب وتعب، في سبيل إبلاغ دينه ونشر دعوته .
ويعرف عند العلماء بأن الإسراء: الرحلة من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، أما المعراج فهو الصعود إلى السماوات السبع وما فوقها.. وقد جاء حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء، وعن المعراج في سورة النجم، قال تعالى :{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الإسراء:1)، وقال تعالى: { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } (النجم 18:12)..
أما تفاصيل هذا الحدث وهذه المعجزة ، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ـ : ( أتيت بالبراق ـ وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه ـ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة (حلقة باب المسجد الأقصى)، التي يربط الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل ـ عليه السلام ـ بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل اخترت الفطرة (الإسلام والاستقامة).. ثم عُرِجَ بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصحبة جبريل إلى السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل ، فسُئِل عمن معه؟، فأخبر أنه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ففُتح لهما.. وهكذا سماء بعد سماء ، حتى انتهيا إلى السماء السابعة، فلقيا في السماء الأولى آدم عليه السلام ، وفي الثانية يحيى وعيسى عليهما السلام ، وفي الثالثة يوسف عليه السلام ، وفي الرابعة إدريس عليه السلام ، وفي الخامسة هارون عليه السلام، وفي السادسة موسى عليه السلام، وفي السابعة إبراهيم عليه السلام . . ولقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل سماء من الترحيب ما تقر به عينه وهو لذلك أهل.. ثم رُفع برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سدرة المنتهى، فأوحى الله إليه ما أوحى، وفرضت عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فأوصاه موسى ـ عليه السلام ـ أن يعود إلى ربه يسأله التخفيف، فما زال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل حتى أصبحت خمسا بدل الخمسين .. وعاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس ، فصلى بالمسجد الأقصى صلاة الصبح إماما والأنبياء خلفه.. ) وانتهت رحلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبعد عودته إلى مكة ذهب عنه كل كرب وغم، وهم وحزن.. وحينما أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قومه برحلته، و بما رآه من آيات ربه، اشتد تكذيبهم له، وارتد بعض من لم يرسخ الإيمان في قلبه، وذهب بعض المشركين إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وقالوا له : إن صاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : إن كان قال فقد صدق . .
إن رحلة ومعجزة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد حادث عادي، بل اشتملت هذه الرحلة النبوية على معان كثيرة، ودروس عظيمة، فمن ذلك أن :
الإسلام دين الفطرة ، وقد ظهر ذلك في اختيار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللبن على الخمر، وبشارة جبريل ـ عليه السلام ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : هُدِيت إلى الفطرة، ففي ذلك دلالة على أن الإسلام هو الدين الذي
هو الدين الذي يلبي نوازع الفطرة في توازن بين الروح والجسد، والمصالح والمفاسد، والدنيا والآخرة، فلو أن الفطرة كانت جسما ذا طول وأبعاد، لكان الدين الإسلامي الثوب المفصل على قدره، وهذا من أهم أسرار سرعة انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه، رغم ما يوضع أمامه من عوائق وعقبات.. قال تعالى :{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30).
وفي الإسراء والمعراج ظهرت : شجاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجهر بالحق، يظهر ذلك في مواجهته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمشركين بأمر تنكره عقولهم، فلم يمنعه من الجهر به، الخوف من مواجهتهم واستهزائهم، فضرب بذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته أروع الأمثلة في وقوف الحق أمام الباطل وأهله، وإن كان هذا الحق غريبا عليهم .
وتسجل رحلة الإسراء والمعراج : موقف أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من هذا الحدث العظيم، وتلقيبه بالصديق، فللإيمان مواقف يظهر فيها، والمؤمنون الصادقون يظهر إيمانهم في المواقف الصعبة، فلقد لقب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالصديق لموقفه من هذه المعجزة، حينما قال له المشركون: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أو قال ذلك؟، قالوا : نعم ، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: لئن كان قال فقد صدق، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر " بالصديق" ـ رضي الله عنه ـ، فعلى المسلم أن يكون حاله مع كلام وأوامر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كحال أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إيمان ويقين ، وتصديق ولتسليم ، وإن خالف عقله وهواه ، قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } (الأحزاب:36)
وفي الإسراء والمعراج ظهرت: أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين ، إذ إنه مَسرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومعراجه إلى السماوات العلى، وكان القبلة الأولى التي صلى المسلمون إليها في الفترة المكية، ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:المسجد الحرام،ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )( البخاري )، وفي ذلك توجيه للمسلمين بأن يعرفوا منزلته، ويستشعروا مسئوليتهم نحوه، بتحريره من أهل الكفر والشرك.. نسأل الله تعالى أن يطهره من اليهود، وأن ترفرف راية الإسلام مرة ثانية على القدس، وغيرها من بلاد المسلمين . .
ومن خلال هذه الرحلة
العظيمة تأكدت أهمية الصلاة ، فللصلاة منزلتها الكبيرة في الإسلام، ومما زادها أهمية وفضلا، أنها فرضت في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا اعتناء بها، وزيادة في تشريفها، ومن ثم كانت من آخر ما أوصى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل موته..
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج معجزة من معجزات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حارت فيها بعض العقول، فزعمت أنها كانت بالروح فقط ، أو كانت مناما، لكن الذي عليه جمهور المسلمين من السلف والخلف أنها كانت بالجسد والروح، قال الإمام ابن حجر في شرحه لصحيحالبخاري : إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة بجسده وروحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى هذا ذهب جمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك،
إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل .. وكذلك قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لصحيح مسلم . . ومن الأدلة كذلك على أن الإسراء والمعراج بالجسد والروح استعظام كفار قريش لذلك، فلو كانت المسألة مناما لما استنكرته قريش، ولما كان فيه شيء من الإعجاز . .
ستظل معجزة ورحلة الإسراء والمعراج مدرسة للمسلمين، يستلهمون منها الدروس والعبر، حتى يحققوا قول لله فيهم:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: