لقد أولى الإسلام قضايا المرأة عناية خاصة ، وقرر لها حقوقها الكاملة قبل أن تقررها القوانين الوضعية بزمن بعيد ، وقد أطلق القرآن الكريم اسم ( سورة النساء ) على واحدة من سوره الطوال ، كما أطلق على سور أخرى أسماء نساء وأوصاف نساء ( مريم ، الممتحنة ، المجادلة ) ، وخصص سوراً كاملة للحديث عن بعض قضايا المرأة ، منها سور ( الطلاق ، النور ، التحريم .. ) ووضع التشريع الإسلامي المرأة على قدم المساواة مع الرجل في كافة التكاليف والواجبات ، واعترف لها بذمتها المالية الكاملة المستقلة ، وأعطاها حق التصرف بمالها ، وراعى الظروف الفيزيولوجية التي تعتريها بين الحين والآخر ( الحيض ، الحمل ، الولادة ، النفاس .. ) فأعفاها في هذه الأحوال الخاصة من بعض التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام .
ومن المعلوم تاريخياً أن المرأة العربية في عصر الجاهلية قبل الإسلام كانت هَمَلاً لا قيمة لها ولا رأي ولا حقوق ، بل كان المجتمع ينظر إليها على أنها متاع من جملة المتاع ، فكانت إذا مات زوجها تورث لأهل الزوج مثل بقية المتاع ، فكانوا إذا مات زوجها يتسابقون لإلقاء الرداء عليها فمن سبق منهم إليها كانت من نصيبه !
ولم يكن حال المرأة في أوروبا وفي بقية أنحاء العالم بأفضل من حالها عند العرب أيام الجاهلية الأولى ، فقد ظلَّ الناس في أوروبا حتى منتصف القرن السادس عشر الميلادي مختلفين حول طبيعة المرأة ، هل هي بشرية أم شيطانية ؟! إلى أن عقد اجتماع في فرنسا عام 1586 قرر فيه المجتمعون بعد جدال طويل أن المرأة إنسان ، ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل ( !؟ ) ولم تنل المرأة حقوقها في الغرب إلا منذ فترة قريبة وهي حقوق مازالت إلى اليوم تعاني من بعض الحيف ، ومازالت المرأة هناك موضوعاً للدعاية والإعلانات المثيرة والمتاجرة بجسدها !
وأما الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام فتشهد النصوص العديدة من القرآن الكريم والسنة النبوية أنها كانت موضع اهتمام كبير ، فقد شاركت النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب الرجال في بيعتي العقبة الأولى والعقبة الثانية ، وهي مشاركة سياسية على أعلى المستويات ، وفي أخطر القرارات المصيرية وقتذاك ، وفي أدق مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية ، كما شهدت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مشاركات عدة من النساء في القرارات المصيرية لعل من أشهرها مشاركة زوجته ( أم سلمة ) رضي الله تعالى عنها في حلِّ الإشكال الذي حصل يوم ( صلح الحديبية ) حين عارض الصحابة الصلح بحجة أنه ليس في صالح الإسلام والمسلمين ، فما كان من ( أم سلمة ) رضي الله تعالى عنها إلا أن تدخلت في الأمر ، واقترحت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحلل من عمرته التي نواها ويذبح الهدي ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرأي هو عين الحكمة ، فقام يذبح الهدي ويتحلل من العمرة ، فلما رأى الصحابة نبيهم يفعل ذلك تحللوا وعدلوا عن موقفهم ، وبهذه الحنكة السياسية النسائية خرج المسلمون من مأزق سياسي خطير كاد ينتهي بنتائج مدمرة .
والأمثلة على موقف الإسلام من قضايا المرأة كثيرة جداً وكلها تدل دلالة دامغة على أن الإسلام قد أعطى المرأة حقوقها كاملة غير منقوصة ، وإن مما يدعو للاستغراب حقاً أن الإسلام بالرغم من كل التكريم الذي خصَّ به المرأة فإن بعض الباحثين مازالوا يزعمون أن بعض أحكام الإسلام تنتهك حقوق المرأة ، وأن الإسلام يميز بين الجنسين لصالح الرجل ، ويضربون على ذلك أمثلة كثيرة ، منها أن الإسلام يجعل القوامة للرجال على النساء ، ويجعل ميراث المرأة نصف ميراث الرجل ، وشهادتها نصف شهادته !؟ وهذه المزاعم ترجع في رأينا إلى أمرين :
الأمر الأول : أن هؤلاء الباحثين لا يفرقون ما بين الإسلام وبين الممارسات التي يمارسها المسلمون بدافع التقاليد والأعراف والعادات .
والأمر الثاني : أن الباحثين الذين ينتقدون بعض الأحكام الشرعية التي تنظم العلاقة بين الجنسين يغفلون ( أو يتغافلون ! ) عن المقاصد الكلية التي ترمي هذه الأحكام لتحقيقها !
فالذين يحتجون على جعل القوامة في يد الرجل دون المرأة يتجاهلون عن قصد أن الأسرة مثلها مثل بقية المؤسسات والشركات لابد لها من مدير يكون مسؤولاً عن تصريف شؤونها ، وتَحَمُّل تبعات إدارتها ، وإلا كان أمر الأسرة فوضى يتصرف فيها كل فرد على هواه ، وبهذا المعنى تكون القوامة تكليفاً لا تشريفاً ، ولا تعني أبداً تفضيل الرجال على النساء بالدرجات ، فإن للتفاضل بالدرجات في ميزن الإسلام معايير أخرى غير القوامة وغير اختلاف الجنس ، والإسلام الذي أعطى الرجل حق القوامة على المرأة لا يبيح له أن يتعسف باستخدام هذا الحق بل يُحَمِّلُهُ كافة التبعات التي قد تنتج عن سوء قوامته .
ومن جانب آخر فإن إعطاء القوامة للرجل مردُّه إلى تلك الفوارق البدنية والنفسية والعاطفية التي قدَّرها الخالق عزَّ وجلَّ بين الجنسين ليقوم بينهما نوع من التكامل لا التنافر ، وقد هيأ الله الرجال لهذه القوامة فجبلهم على طبيعة تختلف بعض الاختلاف عن جبلَّة النساء ، وهذا ما جعل الرجال على مرِّ العصور وبشهادة التاريخ أقدر على القيام بواجب القوامة في مختلف المجتمعات والأمم ، ويؤيد هذا أيضاً أن الخالق عزَّ وجلَّ الذي خلق الذكر والأنثى ويعلم استعدادات كل منهما قد حصر النبوَّات في الرجال دون النساء كما ورد في محكم التنزيل : (( وما أرسَـلنا قَبْلَكَ إلا رجالاً نُوحي إليهم )) سورة الأنبياء 7 .
أما التمييز في الميراث بين النساء والرجال فإنه يأتي في إطار التشريعات الاقتصادية المتكاملة التي شرعها الإسلام ، ففي مقابل إعطاء المرأة نصف حصة الرجل من الميراث ( وهذه ليست قاعدة مطردة في كل حالات الإرث ) فرض الإسلام على الرجل الإنفاق على المرأة التي تحت ولايته حتى وإن كانت غنية ، وفي هذا حكمة إلهية بعيدة المرامي ، فالإسلام يستهدف من هذا التمييز والتداخل في أحكامه وتشريعاته تمتين العلاقات داخل الأسرة ، فلو كانت حصص الميراث متساوية ، ولو لم تكن هناك نفقة واجبة من الرجل على المرأة ، ولو لم يكن للرجل واجب الولاية على المرأة ، إذاً لانفرط عقد الأسرة بمجرد موت المعيل واقتسام التركة ، وإذاً لذهب كل فرد من أفراد الأسرة في طريق .
علماً بأن الإسلام إلى جانب تشريعه للقوامة والنفقة والولاية والإعالة وغيرها من التشريعات ذات السِّمة الاجتماعية فإنه يحضُّ أطراف المعادلة دوماً على التقوى والتسابق إلى فعل الخيرات ، وإيثار الآخرين على النفس ، وهو لا يفتأ يردِّد على الأسماع : (( ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ )) سورة البقرة 237 ، وبسبب هذه التحريضات القرآنية الحكيمة نجد الكثيرين من الرجال الأتقياء الورعين يتنازلون لأخواتهم البنات عن حصتهم من الميراث ، ونجد بالمقابل بعض الأخوات التقيات الورعات يتنازلن عن حصصهن لإخوانهن من الرجال ، حين يجد بعضهم أو بعضهن أن الآخرين أحوج إلى المال ، وهذا ما يزيد أواصر الأسرة تماسكاً ومحبة .. فتأمل .
وأما شهادة المرأة التي جعلها الإسلام نصف شهادة الرجل فهي محصورة في الشهادات العيانية فقط ، أما الشهادة التي تتطلب العلم والخبرة فالرجال والنساء فيها سواء ، بل قد تقدَّم شهادة المرأة على شهادة الرجل في الشهادات التي تتطلب الخبرة وفي الشهادات التي تتعلق بقضايا المرأة كالشهادة على البكارة ونحوها ، وأما تغليب شهادة الرجل على شهادة المرأة في الحوادث العامة فلعل مقصد الشرع من هذا هو الحدّ من تعريض المرأة لما ينتج عادة عن مثل هذه الشهادات التي لا تخلو في الغالب من تبعات خطيرة ، لأنها كثيراً ما تُعَرِّض صاحبها لمضايقات ومخاطر لاحقة ، ولهذا قدمت شهادة الرجل على شهادة المرأة في مثل هذه الحالات وذلك حماية للمرأة ، وحرصاً على سمعتها .. والله تعالى أعلم .
***
وهكذا يبدو جلياً أن الإسلام لا يفرق في الحقوق ما بين الجنسين إلا في حدود ضيقة جداً ، وهذا التمييز ليس تعسُّفياً ، بل له أهداف اجتماعية بعيدة المرامي قلما يدركها المندفعون بلا وعي وراء الدعوات المغرضة ضد الإسلام ، وأما الممارسات المجحفة في حق المرأة التي قد يمارسها بعض المسلمين هنا أو هناك فلا يجوز أن تحسب على الإسلام بل على الذين يمارسونها ، علماً بأن التشريع يحملهم مغبة هذه الممارسات ويؤاخذهم عنها ديانةً ، وقد بؤاخذون عليها قانونياً .